فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد ردّ الله مكرهم وما ترك منهم رجلا إلاّ وضع على رأسه التراب.
فقالوا: أين صاحبك؟
قال: لا أدري فاقتصّوا أثره وأرسلوا في طلبه فلما بلغوا الجبل، فمروا بالغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، وقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسيج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث أيام ثمّ قدم المدينة فذلك قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ}.
قال ابن عباس ومجاهد ومقسم والسدي: ليوثقوك. وقال قتادة: ليشدوك وثاقًا.
وقال عطاء. وعبد الله بن كثير: ليسجنوك. وقال أبان بن ثعلب. وأبو حاتم: ليثخنوك بالجراحات والضرب. وأنشد:
فقلت ويحك ماذا في صحيفتكم ** قالوا الخليفة امسى مثبتًا وجعًا

وقيل: معناه ليسخروك.
وروى ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عبد المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل تدري ما أضمر بك قومك؟
قال: «نعم يريدون أن يسخروا بي ويقتلوني أو يخرجوني» فقال: مَنْ أخبرك بهذا؟
قال: «ربّي».
قال: نِعم الرب ربّك فاستوصِ ربّك خيرًا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا استوصي به بل هو يستوصي بي خيرًا».
وقرأ إبراهيم النخعي (وليثبتوك) من البيات {أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله} قال الحسن: فيقولون ويقول الله.
وقال الضحاك: ويصنعون ويصنع الله: {والله خَيْرُ الماكرين} خير من استنقذك منهم وأهلكهم. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ}
وذلك أن قريشًا تآمروا في دار الندوة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمرو بن هشام: قيدوه واحبسوه في بيت نتربص به ريب المنون. وقال أبو البختري: أخرجوه عنكم على بعير مطرود تستريحوا منه ومن أذاه لكم. قال أبو جهل: ما هذا برأي ولكن اقتلوه وليجتمع عليه من كل قبيلة رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد فترضى حينئذ بنو هاشم بالدية. فأوحى الله عز وجل بذلك إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فخرج إلى الغار مع أبي بكر رضي الله عنه ثم هاجر منه إلى المدينة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة.
فهذا بيان قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ} وفيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: ليثبتوك في الوثاق، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة.
والثاني: ليثبتوك في الحبس، قاله عطاء وعبد الله بن كثير والسدي.
والثالث: معنى يثبتوك أي يخرجوك، كما يقال قد أثبته في الحرب إذا أخرجته، قاله بعض المتأخرين.
{أَوْ يُخْرِجُوكَ} فيه وجهان:
أحدهما: أو يخرجوك من مكة إلى طرف من أطراف الأرض كالنفي.
والثاني: أو يخرجوك على بعير مطرود حتى تهلك، أو يأخذك بعض العرب فتقتلك فتريحهم منك، قاله الفراء. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} الآية.
يشبه أن يكون قوله: {وإذ} معطوفًا على قوله: {إذ أنتم قليل} [الأنفال: 26] وهذا تذكير بحال مكة وضيقها مع الكفرة وجميل صنع الله تعالى في جمعها، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام، وهذا كله على أن الآية مدنية كسائر السورة وهذا هو الصواب، وحكى الطبري عن عكرمة ومجاهد أن هذه الآية مكية، وحكي عن ابن زيد أنها نزلت عقب كفاية الله ورسوله المستهزئين بما أحله بكل واحد منهم، الحديث المشهور، ويحتمل عندي قول عكرمة ومجاهد هذه مكية أن أشارا إلى القصة لا إلى الآية، والمكر المخاتلة والتداهي، تقول: فلان يمكر بفلان إذا كان يستدرجه ويسوقه إلى هوة وهو يظهر جميلًا وتسترًا بما يريد، ويقال أصل المكر الفتل، قاله ابن فورك فكأن الماكر بالإنسان يفاتله حتى يوقعه، ومن المكر الذي هو الفتل قولهم للجارية المعتدلة اللحم: ممكورة، فمكر قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم كان تدبيرهم ما يسوءه وسعيهم في فساد حاله وإطفاء نوره، وتدبير قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخصال الثلاث لم يزل قديمًا من لدن ظهوره لكن إعلانهم لا يسمى مكرًا وما استسروا به هو المكر، وقد ذكر الطبري بسند أن أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد ماذا يدبر فيك قومك، قال: يريدون أن أقتل أو أسجن أو أخرج، قال أبو طالب من أعلمك هذا؟ قال: ربي، قال: إن ربك لرب صدق فاستوص به خيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل هو يا عم يستوصي بي خيرًا.
قال القاضي أبو محمد: وهذا المكر الذي ذكره الله في هذه الآية هو بإجماع من المفسرين إشارة إلى اجتماع قريش في دار الندوة بمحضر إبليس في صورة شيخ نجدي على ما نص ابن إسحاق في سيره، الحديث بطوله، وهو الذي كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة بسببه، ولا خلاف أن ذلك كان بعد موت أبي طالب، ففي القصة أن أبا جهل قال: الرأي أن نأخذ من كل بطن في قريش فتى قويًا جلدًا فيجتمعون ثم يأخذ كل واحد منهم سيفًا ويأتون محمدًا في مضجعه فيضربونه ضربة رجل واحد، فلا يقدر بنو هاشم على قتال قريش بأسرها، فيأخذون العقل ونستريح منه، فقال النجدي: صدق الفتى، هذا الرأي لا أرى غيره، فافترقوا على ذلك فأخبر الله بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم، وأذن له في الخروج إلى المدينة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من ليلته، وقال لعلي بن أبي طالب التفّ في بردي الحضرمي واضطجع في مضجعي فإنه لا يضرك شيء، ففعل علي وجاء فتيان قريش فجعلوا يرصدون الشخص وينتظرون قيامه فيصورون به، فلما قام رأوا عليًا فقالوا له أين صاحبك؟ قال: لا أدري.
وفي السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم في طريقه فطمس الله عيونهم عنه، وجعل على رأس كل واحد منهم ترابًا ومضى لوجهه فجاءهم رجل فقال ما تنتظرون، قالوا محمدًا، قال إني رأيته الآن جائيًا من ناحيتكم وهو لا محالة وضع التراب على رءوسكم، فمد كل واحد يده إلى رأسه، وجاءوا إلى مضجع النبي صلى الله عليه وسلم فوجدوا عليًا فركبوا وراءه حينئذ كل صعب وذلول وهو بالغار، ومعنى {ليثبتوك} ليسجنوك فتثبت، قاله السدي وعطاء وابن أبي كثير، وقال ابن عباس ومجاهد: معناه ليوثقوك، وقال الطبري وقال آخرون المعنى ليسحروك.
وقرأ يحيى بن وثاب فيما ذكر أبو عمرو الداني {ليثبّتوك} وهذه أيضًا بالتضعيف، وحكى النقاش عن يحيى بن وثاب أنه قرأ {ليبيتوك} من البيات، وهذا أخذ مع القتل فيضعف من هذه الجهة، وقال أبو حاتم معنى {ليثبتوك} أي بالجراحة، كما يقال أثبتته الجراحة، وحكاه النقاش عن أهل اللغة ولم يسم أحدًا، وقوله تعالى: {ويمكر الله} معناه يفعل أفعالًا منها تعذيب لهم وعقوبة ومنها ما هو إبطال لمكرهم ورد له ودفع في صدره حتى لا ينجع، فسمى ذلك كله باسم الذنب الذي جاء ذلك من أجله، ولا يحسن في هذا المعنى إلا هذا وأما أن ينضاف المكر إلى الله عز وجل على ما يفهم في اللغة فغير جائز أن يقال، وقد ذكر ابن فورك في هذا ما يقرب من هذا الذي ضعفناه، وإنما قولنا ويمكر الله كما تقول في رجل شتم الأمير فقتله الأمير هذا هو الشتم فتسمى العقوبة باسم الذنب، وقوله: {خير الماكرين} أي أقدرهم وأعزهم جانبًا.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذه الجهة أعني القدرة والعزة يقع التفضيل لأن مكرة الكفار لهم قدرة ما، فوقع التفضيل لمشاركتهم بها، وأما من جهة الصلاح الذي فيما يعلمه الله تعالى فلا مشاركة للكفار بصلاح، فيتعذر التفضيل على مذهب سيبويه والبصريين إلا على ما قد بيناه في ألفاظ العموم مثل خير واجب ونحو هذا إذ لا يخلو من اشتراك ولو على معتقد من فرقة أو من واحد. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا}
هذه الآية متعلقة بقوله: {وذكروا إذ كنتم قليلًا} [الأعراف: 86] فالمعنى: أَذْكِرِ المؤمنين ما مَنَّ الله به عليهم، واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا.
الإشارة إلى كيفية مكرهم.
قال أهل التفسير: لما بويع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وأمر أصحابه أن يلحقوا بالمدينة، أشفقت قريش أن يعلوَ أمره، وقالوا: والله لكأنكم به قد كرَّ عليكم بالرجال، فاجتمع جماعة من أشرافهم ليدخلوا دار الندوة فيتشاوروا في أمره، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ كبير، فقالوا: من أنت؟ قال: أنا شيخ من أهل نجد، سمعت ما اجتمعتم له، فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا من رأيي نصحًا، فقالوا: ادخل، فدخل معهم، فقالوا: انظروا في أمر هذا الرجل، فقال بعضهم: احبسوه في وَثاق، وتربَّصوا به ريب المنون.
فقال إبليس: ما هذا برأي، يوشك أن يثب أصحابه فيأخذوه من أيديكم.
فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم.
فقال: ما هذا برأي، يوشك أن يجمع عليكم ثم يسير إليكم.
فقال أبو جهل: نأخذ من كل قبيلة غلامًا، ثم نعطي كل غلام سيفًا فيضربوه به ضربة رجل واحد، فيفرَّق دمه في القبائل، فما أظن هذا الحي من قريش يقوى على ضرب قريش كلِّها، فيقبلون العَقل ونستريح.
فقال إبليس: هذا والله الرأي، فتفرَّقوا عن ذلك.
وأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأخبره بمكر القوم، فلم يبت في مضجعه تلك الليلة، وأمر عليًا فبات في مكانه، وبات المشركون يحرسونه، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، أذن له الله في الخروج إلى المدينة، وجاء المشركون لَّما أصبحوا، فرأوا عليًا، فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، فاقتصُّوا أثره حتى بلغوا الجبل، فمروا بالغار، فرأوا نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخله لم يكن عليه نسج العنكبوت.
فأما قوله: {ليثبتوك} فقال ابن قتيبة: معناه: ليحبسوك.
يقال فلان مثبت وجعًا: إذا لم يقدر على الحركة.
وللمفسرين فيه قولان:
أحدهما: ليثبتوك في الوَثاق، قاله ابن عباس، والحسن في آخرين.
والثاني: ليثبتوك في الحبس، قاله عطاء، والسدي في آخرين.
وكان القومُ أرادوا أن يحبسوه في بيت ويشدوا عليه بابه ويلقوا إليه الطعام والشراب، وقد سبق بيان المكر في [آل عمران: 54]. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ}
هذا إخبار بما اجتمع عليه المشركون من المكر بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في دار النَّدْوة؛ فاجتمع رأيهم على قتله فبيّتوه، ورصدوه على باب منزله طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج؛ فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله عز وجل أن يُعمي عليهم أثره، فطمس الله على أبصارهم، فخرج وقد غَشيَهم النوم، فوضع على رءوسهم ترابًا ونهض.
فلما أصبحوا خرج عليهم عليٌّ فأخبرهم أن ليس في الدار أحد، فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فات ونجا.
الخبر مشهور في السيرة وغيرها.
ومعنى {لِيُثْبِتُوكَ} ليحبسوك؛ يقال: أثبتّه إذا حبسته.
وقال قتادة: {لِيُثْبِتُوكَ} وثَاقًا.
وعنه أيضًا وعبدِ الله بن كَثير: ليسجنوك.
وقال أبَان بن تَغْلِب وأبو حاتم: ليثخنوك بالجراحات والضرب الشديد.
قال الشاعر:
فقلتُ ويحكما ما في صحيفتكم ** قالوا الحليفة أمسى مُثبتًا وجعا

{أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} عطف.
{وَيَمْكُرُونَ} مستأنف.
والمكر: التدبير في الأمر في خفية.
{والله خَيْرُ الماكرين} ابتداء وخبر.
والمكر من الله هو جزاؤهم بالعذاب على مكرهم من حيث لا يشعرون. اهـ.

.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} لما ذكر الله المؤمنين نعمه عليهم بقوله تعالى: {واذكروا إذ أنتم قليل} ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم نعمه عليه فيما جرى عليه بمكة من قومه لأن هذه السورة مدنية وهذه الواقعة كانت بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة والمعنى واذكر يا محمد إذ يمكر بك الذين كفروا وكان هذا المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من أهل التفسير قالوا جميعًا إن قريشًا فرقوا لما أسلمت الأنصارأن يتفاقم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويظهر فاجتمع نفر من كبار قريش في دار الندوة ليتشاورا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رءوسهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأبو سفيان وطعيمة بن عدي والنضر بن الحرث وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود وحكيم بن حزام ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأمية بن خلف، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ، فلما رأوه قالوا له: من أنت؟ قال: أنا شيخ من نجد سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأيًا ونصحًا.